تتم
هذه العملية طيلة سيلان المياه وتبدأ الكائنات الحية عملها من بداية
الوادي حيث تكون المياه جد ملوثة ومحملة بالمواد العضوية التي احتملتها
مياه الأمطار من الأراضي القريبة. وفي نهاية الوادي حيث المصب تكون المياه
قد تطهرت من هذا التلوث العضوي فتصبح صالحة للاستعمال البشري وتنفع الناس.
وقد أكدت التحاليل المخبرية نجاعة ظاهرة التطهير الذاتي للأودية والمجاري
المائية وأصبحت مقاييس(oxygen chemical demand) DCOوDBO (oxygen biological demande) في عينات مياه المجاري عملية روتينية لتصنيف المياه الملوثة أو النقية. إذن عملية التطهير
الذاتي في الأودية هي نتاج مجموعة عوامل فيزيائية (السيلان وتخليط المياه
وتحول الغاز إلى سائل) وبيولوجية (دور الكائنات المجهرية) وكيمائية
(التفاعلات الكيمائية والأكسدة). وبضدها تتضح الأشياء، فالمياه الراكدة
تكون ملوثة ومتعفنة ذات روائح كريهة وتتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة,
وعلى العكس تكون ضارة للناس وغير نافعة. ومن هنا اقتبس العلماء ظاهرة
التطهير الذاتي الطبيعية وطوروها وأخضعوها إلى تكنولوجيا العصر.
فأوجدوا محطات التطهير للمياه المستعملة والتي تعتمد على نفس المبادئ
والعوامل الفيزيائية والكيمائية والبيولوجية التي تقوم عليها ظاهرة التطهير
الذاتي الطبيعية. كما أن النتيجة واحدة: زبد يطفو ويذهب جفاءً وما ينفع الناس هو
الماء لسقي المسطحات الخضراء والمنتزهات وأيضا الأوحال أو مخلفات محطات
التطهير التي تستعمل كأسمدة نافعة للتربة فتقويها وتزيد من غناها والرفع من
أنتاجها وهذا ما ذكرته الآية الكريمة : " فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" صدق الله العظيم. فالزبد
أو الرغوة يذهب في الجو ويتبخر بالرغم من انتفاخه وعلوه على مياه السيل.
مثله مثل الباطل في علوه على الحق ثم أفوله مثل النجم الآفل. وأما ما ينفع
الناس فهو الماء الذي مر بعملية التطهير فصار صالحا للاستعمال البشري
كالشرب والسقي وتخلص من ملوثاته العضوية. ثم مكث في الأرض وتسرب إلى باطنها فصار يغذي المائدة والآبار، وهو قي نفعه ودوامه واستمراره مثل الحق في ثباته وصموده تجاه الباطل. وأيضا ما ينفع الناس فهو الطين والدبال
والأملاح المعدنية التي تمتزج فيما بينها فتعطي تربة جد خصبة تنفع
للاستعمال الفلاحي لأنها تمتاز بخاصيات كيميائية وفيزيائية جيدة مثل القوام (texture)و (structure)غناها بالمعادن مثل الحديد والمنغنيز والفسفور. وهذا يعود أساسا إلى تكون ما يعبر عنه (complexe argilo humique)وهو أن الطين يلتحم بالدبال (ذات شحنة سالبة) بواسطة المعادن مثل الحديد ذات الشحنة الموجبة (Fe2+)، والذي قال عنه القرآن الكريم: " فيه منافع للناس" وهذا إعجاز آخر أيضا، وإشارة جد هامة إلى علم الترسبات sedimentology)) وعلم الأرض (pedology).
وبصفة
عامة مثلا في الصحاري والمناطق الجافة نلاحظ أن المجمعات السكنية والواحات
والأنشطة الفلاحية تتمركز حول الوديان لغناء التربة بها ووفرة المياه
وقربها من سطح الأرض.
ويقول الله تعالى بعد أن ذكر هذه الظاهرة”: ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله”هنا
انتقل سياق الآية إلى ميدان آخر في ظاهره بعيد كل البعد عن هذه الظاهرة
الطبيعية. فهي تتحدث عن ميدان الميتالورجيا "علم المعادن والتعدين" وهو
ميدان بعيد عن الهيدرولوجيا التي تحدث عنه المقطع السابق من الآية. والسؤال
الذي يطرح هنا : ما هو وجه المقارنة بين هذين المجالين وهذين المقطعين من
الآية. فنقول إن العلاقة بينهما عبارة "زبد مثله". فمماثلة الزبد هو الرابط
بين المقطعين. في ظاهر الأمر تبدو العلاقة كما يلي: ففي الطريقة العادية
أو الكلاسيكية التي تتم بها في القديم فصل المعادن هي الطريقة الحرارية (pyrometallurgy)أي
التسخين إلى درجة حرارية معينة لإذابة المعدن الذي نريد استخلاصه ثم
تنقيته من الشوائب وإزالة الخبث الذي يطفو عليه وهو أيضا يشبه الزبد الناتج
عن عملية السيلان الذي تحدثت عنه الآية سابقا من حيث أنه يطرح ولا ينتفع
به.
لكن
يبدو أن مجال المقارنة بعيد وأن الزبد الناتج عن المعاملة الأولى (التطهير
الذاتي التي ترتكز على العوامل الهيدرولوجية والفيزيائية والبيولوجية
والكيميائية) والمعاملة الثانية (الحرارية وهي فيزيائية بحتة) لا يتشابهان
تماما في حين أن القرآن الكريم قال : "زبد مثله" وأركز على كلمة مثله، ففي
ذكر كلمة مثله إشارة إلى نفس التقنية أو المعاملة وهي المعاملة
الهيدرولوجية والكيميائية والبيولوجية في نفس الوقت، في حين أنه آنذاك لا يوجد طريقة أخرى لاستخراج المعادن غير الطريقة الحرارية التي أشارت إليها الآية الكريمة.
لكنه
"لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى" إذن كيف يمكن
الجمع بين الأمرين المتناقضين ظاهريا. فالله سبحانه وتعالى الذي خلق الكون
هو أدرى به وأعلم بكل صغيرة وكبيرة فيه، وان كان العقل البشري قاصرا على
فهم هذه الأشياء. "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا". وكما هي العادة تأتي
الاكتشافات العلمية والحقائق المعرفية لتؤكد وتؤيد ما قاله الله سبحانه
وتعالى في قرآنه الكريم على لسان رسوله الأمين الصادق المصدوق محمد عليه
أفضل الصلاة والسلام منذ 14 قرن. فقد أثبت العلم الحديث أنه من الممكن
استخلاص المعادن بطرق مختلفة عن الطريقة الحرارية العادية وهذه الطرق
الجديدة تعتمد على العوامل الهيدرولوجية والكيميائية والبيولوجية كما
هو الحال في المعاملة الأولى التي ذكرتها الآية الكريمة وهي التطهير
الذاتي. فمع تطور علم الكيمياء والتفاعلات الكيميائية واختراع الحوامض مثل
الحامض الفسفوري والكلوريدري اكتشف العلماء أنه يمكن إذابة المعادن في
المحاليل التي تكون نسبة الحموضة فيها مرتفعة. ومن ثم أمكن استخراج المعادن
بالمناجم بالطريقة الهيدرولوجيا (hydrometallurgy)عوضا عن الطريقة الحرارية(pyrometallurgy)وهذه الطريقة تسمى (chemical leaching)لأنها تعتمد على المواد الكيمائية مثل الحوامض لإذابة المعادن في المحاليل ومن ثم استخراج المعادن من هذه المحاليل بطرق شتى مثل Electrodialyse) (Electrodéposition- وطبقت هذه الطريقة في كهوف المناجم وتم اعتمادها كطريقة أساسية لاستخراج المعادن بالمناجم.
وسرعان ما ظهرت مشكلة بيئية وهي ما يعبر عنها بمشكلة (MAD : drainage acide des minerais)وهي
سيول حمراء اللون حامضة يطفو فوقها زبد مثل زبد السيول العادية وتسبب هذه
السيول تلوث التربة والمجاري المائية بالمعادن الثقيلة لأن هذه السيول
تحتوي كميات كبيرة من المعادن بسبب حموضتها العالية كما أنها تتسبب في
حموضة المياه السطحية وبالتالي الإضرار بالكائنات الحية المائية والتوازن
البيئي.
وفي سنة 1947 قام العالم كولمار بأبحاث معمقة حول هذه MADواكتشف نوع من البكتيريا سماها (Tf) Thiobacillus ferrooxidansوقام بعزلها في مناجم النحاس والزنك وتقوم هذه البكتيرية بالتعاون مع أصناف بكتيرية أخرى مثل(Tt) Thiobacillus thiooxidans و(Lf) Leptospirillum ferrooxidans بأكسدة المعادن الكبريتية الموجودة بالمناجم إلى معادن كتيونية في ظروف من الحموضة المرتفعة مع وجود تهوئة أو أكسجين.ومنذ
ذلك الحين طور العلماء استعمال هذه الأصناف في مجال البيوتكنولوجيا وصار
تطبيقه رائجا جدا في مناجم الذهب والنحاس والزنك لأنها تقنية سهلة غير
مكلفة ولا تضر بالبيئة خاصة في المناجم الفقيرة التي تكون نسبة المعادن
فيها ضعيفة. وأخذت هذه الطريقة البيولوجية تعوض شيئا فشيئا الطريقة
الكيميائية الكلاسيكية التي تستهلك كميات كبيرة من الحوامض والتي تودي إلى
تلوث البيئة بالحموضة والمعادن الثقيلة.وحسب التقديرات الحالية فان ربع كمية النحاس والزنك المستخرجة من المناجم تعتمد على هذه التقنية البيولوجية الجديدة.والبحث العلمي في هذا المجال متواصل لتطوير هذه التقنية والإحاطة بكل إيجابياتها الاقتصادية والبيئية. وتكون البكتيريا Tf في شكل عصيات طولها واحد ميكرومتر و عرضها نصف ميكرومتر،(pH 1,5) acidophyl،mesophyl (30/40 °C)،aerobie(O2) ، autotrophe ، وهي من صنف gram- وتأخذ الطاقة اللازمة لعيشها وتكاثرها من خلال أكسدة المكونات الكبريتية (S, SO4أو أكسدة الحديد Fe2+ إلىFe3+ باستعمال الأكسجين Oxydantوتقوم Tfبتحليل المعادن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حسب هذه التفاعلات الكيمائية:
MS + 2O2 ----- M2+ + SO42-
MS +2Fe3+ -----M2+ + 2Fe2+ + S
ومن
العجيب أن هذه الطريقة الهيدروبيولوجية لاستخراج المعادن تشبه تماما طريقة
التطهير الذاتي للأودية، ففي المناجم التي تعتمد هذه الطريقة يتم تكديس
تربة المناجم في الهواء الطلق ثم تسقى هذه الأكداس بمحلول يحتوي على خليط
من البكتيريا ، بطريقة كنزول المطر، ثم تتم عملية الأكسدة.وتعمل البكتيريا لتحليل المعادن في شكل سائل حامض غني بالمعادن يشبه تماما سيل الوادي ويعلوه زبد وخبث يشبه تماما زبد السيل.
ثم يتم تجميع هذا السائل واستخراج المعادن التي تنفع الناس بوسائل عدة مثل اللكتروديبوسيون (electrodeposition).
أما ذلك الخبث والزبد فيطرح ويذهب جفاء. وهذا مصداقا لقوله "زبد مثله" أي
نتاج عملية السيلان والأكسدة مثل زبد السيل. وأيضا مصداقا لقوله "فأما
الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض أي ذلك السائل الغني
بالمعادن. ومن العجيب أيضا أن ذلك السائل يكون لونه بنيا تماما مثل سيل
الوادي ويحتوي على معدن الحديد الذي يعطي هذا اللون الأحمر. وهو نتاج أكسدة
الحديد بواسطة
البكتيريا. فقد قال الله تعالى عن الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.
والملاحظ أيضا أن تلك البكتيريا تعتمد على الحديد بشكل أساسي.
كما
أن هذه الطريقة تستعمل في مناجم الذهب (الحلية) والنحاس والزنك (متاع) كما
ذكر في الآية (ابتغاء حلية أو متاع). ففي كندا مثلا و الوليات المتحدة
توجد نوع من المناجم التي لا يمكن استخراج الذهـب إلا بــهـذه الــطريقة
مــــــــثل (minerais aurifères réfractaires arsenicaux) وفي حال استعمال الطرق الأخرى تكون جد مكلفة وملوثة للبيئة.
وإضافة
إلى مجال التعدين، فإن العلماء قد طوروا هذه الطريقة وطبقوها في ميدان
التطهير فصارت من أهم الأساليب البيولوجية المعتمدة لتطهير المواد الصلبة
الملوثة بالمعادن الثقيلة مثل التربة والتربة المائية والأوحال ومخلفات
محطات التطهير والمركبات الصناعية. وقد أثبتت الأبحاث في مجال
البيوتكنولوجيا مدى نجاعة هذه البكتيريا في تطهير هذه المواد من ملوثاتها
المعدنية بواسطة أسلوب (Bioleaching)وسهولة هذه الطريقة وزهادة كلفتها. قام العلماء المختصون بتصميم مفاعلات بيولوجية (Bioreactor)خاصة بهذا الغرض البيئي حيث تتوفر جميع الظروف الملائمة للبكتيريا للقيام بواجبها على أحسن وجه.
Vالخاتمة
لقد كشفت هذه الدراسة عن بعض جوانب الإعجاز
العلمي للقرآن الكريم في مجالي التطهير والتعدين. وأعطت تفسيرا علميا
للآية17 من سورة الرعد معتمدة في ذلك على حقائق علمية تم اكتشافها مؤخرا و
أثبت البحث العلمي مدى صحتها و نجاعتها في الواقع.
و قد تبين من خلال هذه الدراسة أن القرآن
الكريم أشار إلى ظاهرة التطهير الذاتي للمسطحات المائية التي اكتشفها
العلماء مؤخرا. وهي مجموعة أساليب هيدرولوجية، فيزيوكيمائية و بيولوجية
لتنقية المياه الملوثة عضويا. و ينتج عن هذه العملية ماء صافيا ينتفع به
الناس و زبد يطرح لا فائدة فيه. و في اقرار الآية مماثلة الزبد الناتج عن
عملية التطهير (زبد مثله) للزبد الناتج عن عملية التعدين، جوانب هامة من
الإعجاز العلمي للقرآن . فهذه المماثلة في الزبد تقتضي ضمنيا مماثلة
الأساليب التي ينتج عنها هذا الزبد، في حين أنه آنذاك لم يكن العقل البشري
يدرك إلا المعاملة الحرارية لاستخراج المعادن وهي عملية فيزيائية بحتة. و
لقد بينت هذه الدراسة أنه فعلا في العقود الأخيرة اكتشف العلماء أساليب
هيدرولوجية و "فيزيوكيميائية " و بيولوجية في مجال التعدين تشبه تلك التي
تستخدم في مجال التطهير و تنتج بدورها زبدا يشبه تماما الزبد الذي تنتجه
عملية التطهير. حقا إن القرآن المعجز الذي لا تنضب عجائبه و لا تنتهي مظاهر
إعجازه في شتى الميادين العلمية.
Email : chemoh 2000 @yahoo. Fr
المصدر : ألقيت هذه المحاضرة في مؤتمر الإعجاز العلمي في القرآن والسنة الذي عقد في الكويت 2006/ ولقد حصلنا عليها من المؤلف.
المراجع:
1- القرآن الكريم
2- تفسير الجلالين الجلال الدين السيوطي
3- تفسير إبن كثير: للإمام ابن كثير
4- صفوة التفاسير : الصابوني
5- زاد المسير في علم التفاسير للأمام غبن الجوزي
Barrett, J., Hughes, M. N., Karavaiko, G. I. and Spencer, P. A.: 1993, Metal Extraction by Bacterial Oxidation of Minerals, Eillis Horwood, Chichester.
E. Torma and J. A. Brierley (eds), Metallurgical Application of Bacterial Leaching and Related Microbiology Phenomena, Academic Press, New York, pp. 232–250.
Tyagi, R. D. and Couillard, D.: 1987, ‘Bacterial leaaching of metal from digested sewage sludge’, Process Biochemistry 22, 114–117.
Wong, L. and Henry, J. G.: 1988, ‘Bacterial Leaching of Heavy Metals from Anaerobically Digested Sludge’, in D. L. Wise (ed.), Biotreatment Systems, Vol. II, CRC Press, Boca Raton, FL, U.S.A., pp. 125–169.
Xiang,
L., Chan, L. C. and Wong, J. W. C.: 2000, ‘Removal of heavy metals from
anaerobically digested sewage sludge by isolated indigenous
iron-oxidizing bacteria’, Chemosphere 41, 283–287.
Tyagi, R. D. and Tran, F. T.: 1991, ‘Microbial leaching of metals from digested sewage sludge in continuous system’, Environmental Technology 12(4), 303–312.
Blais, J. F., Tyagi, R. D. and Auclair, J. C.: 1992a, ‘Bioleaching of metals from sewage sludge by sulfur-oxidizing bacteria’, Journal of Environmental Engineering 118, 690–707.
M.
Salim Oncen, Mahir Ince, Mahmut Bayramoglu, leaching of silver from
solid waste using ultrasound assisted thiourea method. Ultrasonic
Sonochemistry 12 (2005) 237-242.
Silverman P, Lindgren DG. Studies on chemoautotrauphic iron bacterium ferrobacillus ferrooxidans.J bact 1969; 77:642-7
Gormely S, Duncan DW, Brassion RMR, Pinder KL. Continuous culture of Thiobacillus ferrooxidanson zinc sulphate concentrate. Biotech Bioeng 1975; 17:31-38